التشاجيح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

‏الجذام

اذهب الى الأسفل

 ‏الجذام  Empty ‏الجذام

مُساهمة من طرف  الثلاثاء أغسطس 24, 2010 7:16 am

‏الجذام‏

‏ ‏باب ‏ ‏الجذام ‏ ‏وقال ‏ ‏عفان ‏ ‏حدثنا ‏ ‏سليم بن حيان ‏ ‏حدثنا ‏ ‏سعيد بن ميناء ‏ ‏قال سمعت ‏ ‏أبا هريرة ‏ ‏يقول قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لا عدوى ‏ ‏ولا ‏ ‏طيرة ‏ ‏ولا ‏ ‏هامة ‏ ‏ولا ‏ ‏صفر ‏ ‏وفر من ‏ ‏المجذوم ‏ ‏كما تفر من الأسد




فتح الباري بشرح صحيح البخاري


‏قَوْله : ( بَاب الْجُذَام ) ‏
‏بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة , هُوَ عِلَّة رَدِيئَة تَحْدُث مِنْ اِنْتِشَار الْمِرَّة السَّوْدَاء فِي الْبَدَن كُلّه فَتُفْسِد مِزَاج الْأَعْضَاء , وَرُبَّمَا أَفْسَدَ فِي آخِره إِيصَالهَا حَتَّى يَتَأَكَّل . قَالَ اِبْن سِيدَهْ : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَجَذُّمِ الْأَصَابِع وَتَقَطُّعهَا . ‏

‏قَوْله : ( وَقَالَ عَفَّان ) ‏
‏هُوَ اِبْن مُسْلِم الصَّفَّار . وَهُوَ مِنْ شُيُوخ الْبُخَارِيّ لَكِنْ أَكْثَر مَا يَخْرُج عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ , وَهُوَ مِنْ الْمُعَلَّقَات الَّتِي لَمْ يَصِلهَا فِي مَوْضِع آخَر , وَقَدْ جَزَمَ أَبُو نُعَيْم أَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْهُ بِلَا رِوَايَة , وَعَلَى طَرِيقَة اِبْن الصَّلَاح يَكُون مَوْصُولًا . وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْم مِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ وَأَبِي قُتَيْبَة مُسْلِم بْن قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَنْ سَلِيم بْن حَيَّان شَيْخ عَفَّان فِيهِ , وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن مَرْزُوق عَنْ سَلِيم لَكِنْ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَسْتَخْرِجهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ . وَقَدْ وَصَلَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ أَيْضًا . وَسَلِيم بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر ثَانِيه , وَحَيَّان بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّة ثَقِيلَة . ‏

‏قَوْله : ( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَة وَلَا هَامَة وَلَا صَفَر ) ‏
‏كَذَا جَمْع الْأَرْبَعَة فِي هَذِهِ الرِّوَايَة , وَيَأْتِي مِثْله سَوَاء بَعْد عِدَّة أَبْوَاب فِي " بَاب لَا هَامَة " مِنْ طَرِيق أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَيَأْتِي بَعْد خَمْسَة أَبْوَاب مِنْ طَرِيق أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْله لَكِنْ بِدُونِ قَوْله : " وَلَا طِيَرَة " وَأَعَادَهُ بَعْد أَبْوَاب كَثِيرَة بِزِيَادَةِ قِصَّة , وَبَعْد عِدَّة أَبْوَاب فِي " بَاب لَا طِيَرَة " مِنْ طَرِيق عُبَيْد اللَّه بْن عُتْبَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " لَا طِيَرَة " حَسْب , وَفِي " بَاب لَا عَدْوَى " مِنْ طَرِيق سِنَان بْن أَبِي سِنَان عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى " حَسْب , وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى وَلَا هَامَة وَلَا طِيَرَة " , وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ طَرِيق الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْل رِوَايَة أَبِي سَلَمَة وَزَادَ " وَلَا نَوْء " وَيَأْتِي فِي " بَاب لَا عَدْوَى " مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر , وَمِنْ حَدِيث أَنَس " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَة " , وَلِمُسْلِمِ وَابْن حَيَّان مِنْ طَرِيق اِبْن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا بِلَفْظِ " لَا عَدْوَى وَلَا صَفَر وَلَا غُول " وَأَخْرَجَ اِبْن حِبَّان مِنْ طَرِيق سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مِثْل رِوَايَة سَعِيد بْن مِينَاء وَأَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَزَادَ فِيهِ الْقِصَّة الَّتِي فِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَهُوَ فِي اِبْن مَاجَهْ بِاخْتِصَارٍ . فَالْحَاصِل مِنْ ذَلِكَ سِتَّة أَشْيَاء : الْعَدْوَى وَالطِّيَرَة وَالْهَامَة وَالصَّفَر وَالْغُول وَالنَّوْء , وَالْأَرْبَعَة الْأُوَل قَدْ أَفْرَدَ الْبُخَارِيّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهَا تَرْجَمَة فَنَذْكُر شَرَحَهَا فِيهِ وَأَمَّا الْغُول فَقَالَ الْجُمْهُور : كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُم أَنَّ الْغِيلَان فِي الْفَلَوَات , وَهِيَ جِنْس مِنْ الشَّيَاطِين تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ وَتَتَغَوَّل لَهُمْ تَغَوُّلًا أَيْ تَتَلَوَّن تَلَوُّنًا فَتَضِلّهُمْ عَنْ الطَّرِيق فَتُهْلِكهُمْ , وَقَدْ كَثُرَ فِي كَلَامهمْ " غَالَتْهُ الْغُول " أَيْ أَهْلَكَتْهُ أَوْ أَضَلَّتْهُ , فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : لَيْسَ الْمُرَاد إِبْطَال وُجُود الْغِيلَان , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ إِبْطَال مَا كَانَتْ الْعَرَب تَزْعُمهُ مِنْ تَلَوُّن الْغُول بِالصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَة , قَالُوا : وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيع الْغُول أَنْ يُضِلّ أَحَدًا . وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث " إِذَا تَغَوَّلَتْ الْغِيلَان فَنَادُوا بِالْأَذَانِ " أَيْ اِدْفَعُوا شَرّهَا بِذَكَرِ اللَّه . وَفِي حَدِيث أَبِي أَيُّوب عِنْد قَوْله : " كَانَتْ لِي سَهْوَة فِيهَا تَمْر , فَكَانَتْ الْغُول تَجِيء فَتَأْكُل مِنْهُ " الْحَدِيث , وَأَمَّا النَّوْء فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ فِي كِتَاب الِاسْتِسْقَاء , وَكَانُوا يَقُولُونَ " مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا " فَأَبْطَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَطَر إِنَّمَا يَقَع بِإِذْنِ اللَّه لَا بِفِعْلِ الْكَوَاكِب , وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَة جَرَتْ بِوُقُوعِ الْمَطَر فِي ذَلِكَ الْوَقْت , لَكِنْ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيره , لَا صُنْع لِلْكَوَاكِبِ فِي ذَلِكَ , وَاَللَّه أَعْلَم . ‏

‏قَوْله ( وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَد ) ‏
‏لَمْ أَقِف عَلَيْهِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه , وَمِنْ وَجْه آخَر عِنْد أَبِي نُعَيْم فِي الطِّبّ , لَكِنَّهُ مَعْلُول . وَأَخْرَجَ اِبْن خُزَيْمَةَ فِي " كِتَاب التَّوَكُّل " لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيث عَائِشَة وَلَفْظه " لَا عَدْوَى , وَإِذَا رَأَيْت الْمَجْذُوم فَفِرَّ مِنْهُ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَد " وَأَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الشَّرِيد الثَّقَفِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : " كَانَ فِي وَفْد ثَقِيف رَجُل مَجْذُوم , فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاك , فَارْجِعْ " قَالَ عِيَاض : اِخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي الْمَجْذُوم , فَجَاءَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ جَابِر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَ مَجْذُوم وَقَالَ : ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ " قَالَ فَذَهَبَ عُمَر وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف إِلَى الْأَكْل مَعَهُ وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ مَنْسُوخ . وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ عِيسَى بْن دِينَار مِنْ الْمَالِكِيَّة , قَالَ : وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر وَيَتَعَيَّن الْمَصِير إِلَيْهِ أَنْ لَا نَسْخ , بَلْ يَجِب الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ وَحَمْل الْأَمْر بِاجْتِنَابِهِ وَالْفِرَار مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَالِاحْتِيَاط , وَالْأَكْل مَعَهُ عَلَى بَيَان الْجَوَاز ا ه . هَكَذَا اِقْتَصَرَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى حِكَايَة هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ , وَحَكَى غَيْره قَوْلًا ثَالِثًا وَهُوَ التَّرْجِيح , وَقَدْ سَلَكَهُ فَرِيقَانِ : أَحَدهمَا سَلَكَ تَرْجِيح الْأَخْبَار الدَّالَّة عَلَى نَفْي الْعَدْوَى وَتَزْيِيف الْأَخْبَار الدَّالَّة عَلَى عَكْس ذَلِكَ مِثْل حَدِيث الْبَاب فَأَعَلُّوهُ بِالشُّذُوذِ , وَبِأَنَّ عَائِشَة أَنْكَرَتْ ذَلِكَ , فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهَا " أَنَّ اِمْرَأَة سَأَلَتْهَا عَنْهُ فَقَالَتْ : مَا قَالَ ذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ قَالَ : لَا عَدْوَى , وَقَالَ : فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل ؟ قَالَتْ : وَكَانَ لِي مَوْلًى بِهِ هَذَا الدَّاء فَكَانَ يَأْكُل فِي صِحَافِي وَيَشْرَب فِي أَقْدَاحِي وَيَنَام عَلَى فِرَاشِي " وَبِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة تَرَدَّدَ فِي هَذَا الْحُكْم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فَيُؤْخَذ الْحُكْم مِنْ رِوَايَة غَيْره , وَبِأَنَّ الْأَخْبَار الْوَارِدَة مِنْ رِوَايَة غَيْره فِي نَفْي الْعَدْوَى كَثِيرَة شَهِيرَة بِخِلَافِ الْأَخْبَار الْمُرَخِّصَة فِي ذَلِكَ , وَمِثْل حَدِيث " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " وَقَدْ أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَسَنَده ضَعِيف , وَمِثْل حَدِيث عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ " كَلِّمْ الْمَجْذُوم وَبَيْنك وَبَيْنه قَيْد رُمْحَيْنِ " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي الطِّبّ بِسَنَدٍ وَاهٍ , وَمِثْل مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ " أَنَّ عُمَر قَالَ لِمُعَيْقِيب : اِجْلِسْ مِنِّي قَيْد رُمْح " وَمِنْ طَرِيق خَارِجَة بْن زَيْد كَانَ عُمَر يَقُول نَحْوه , وَهُمَا أَثَرَانِ مُنْقَطِعَانِ , وَأَمَّا حَدِيث الشَّرِيد الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم فَلَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْجُذَام , وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ أَنَّ طَرِيق التَّرْجِيح لَا يُصَار إِلَيْهَا إِلَّا مَعَ تَعَذُّر الْجَمْع , وَهُوَ مُمْكِن , فَهُوَ أَوْلَى . الْفَرِيق الثَّانِي سَلَكُوا فِي التَّرْجِيح عَكْس هَذَا الْمَسْلَك , فَرَدُّوا حَدِيث لَا عَدْوَى بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة رَجَعَ عَنْهُ إِمَّا لِشَكِّهِ فِيهِ وَإِمَّا لِثُبُوتِ عَكْسه عِنْده كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحه فِي " بَاب لَا عَدْوَى " قَالُوا : وَالْأَخْبَار الدَّالَّة عَلَى الِاجْتِنَاب أَكْثَر مَخَارِج وَأَكْثَر طُرُقًا فَالْمَصِير إِلَيْهَا أَوْلَى , قَالُوا : وَأَمَّا حَدِيث جَابِر " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُوم فَوَضَعَهَا فِي الْقَصْعَة وَقَالَ : كُلْ ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ " فَفِيهِ نَظَر , وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَبَيَّنَ الِاخْتِلَاف فِيهِ عَلَى رَاوِيه وَرَجَّحَ وَقْفه عَلَى عُمَر , وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ مَعَهُ , وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ يَده فِي الْقَصْعَة , قَالَهُ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " . وَالْجَوَاب أَنَّ طَرِيق الْجَمْع أَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَيْضًا فَحَدِيث لَا عَدْوَى ثَبَتَ مِنْ غَيْر طَرِيق أَبِي هُرَيْرَة فَصَحَّ عَنْ عَائِشَة وَابْن عُمَر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَجَابِر وَغَيْرهمْ , فَلَا مَعْنَى لِدَعْوَى كَوْنه مَعْلُولًا , وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي طَرِيق الْجَمْع مَسَالِك أُخْرَى : ‏
‏أَحَدهَا : نَفْي الْعَدْوَى جُمْلَة وَحَمْل الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم عَلَى رِعَايَة خَاطِر الْمَجْذُوم , لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيح الْبَدَن السَّلِيم مِنْ الْآفَة تَعْظُم مُصِيبَته وَتَزْدَاد حَسْرَته , وَنَحْوه حَدِيث " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . ‏
‏ثَانِيهَا : حَمْل الْخِطَاب بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات عَلَى حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ , فَحَيْثُ جَاءَ " لَا عَدْوَى " كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ قَوِيَ يَقِينه وَصَحَّ تَوَكُّله بِحَيْثُ يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع عَنْ نَفْسه اِعْتِقَاد الْعَدْوَى , كَمَا يَسْتَطِيع أَنْ يَدْفَع التَّطَيُّر الَّذِي يَقَع فِي نَفْس كُلّ أَحَد , لَكِنْ الْقَوِيّ الْيَقِين لَا يَتَأَثَّر بِهِ , وَهَذَا مِثْل مَا تَدْفَع قُوَّة الطَّبِيعَة الْعِلَّة فَتُبْطِلهَا , وَعَلَى هَذَا يُحْمَل حَدِيث جَابِر فِي أَكْل الْمَجْذُوم مِنْ الْقَصْعَة وَسَائِر مَا وَرَدَ مِنْ جِنْسه , وَحَيْثُ جَاءَ " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم " كَانَ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ يَقِينه , وَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ تَمَام التَّوَكُّل فَلَا يَكُون لَهُ قُوَّة عَلَى دَفْع اِعْتِقَاد الْعَدْوَى , فَأُرِيدَ بِذَلِكَ سَدُّ بَاب اِعْتِقَاد الْعَدْوَى عَنْهُ بِأَنْ لَا يُبَاشِر مَا يَكُون سَبَبًا لِإِثْبَاتِهَا . وَقَرِيب مِنْ هَذَا كَرَاهِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيّ مَعَ إِذْنه فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيره , وَقَدْ فَعَلَ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَأَسَّى بِهِ كُلّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ . ‏
‏ثَالِث الْمَسَالِك : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ : إِثْبَات الْعَدْوَى فِي الْجُذَام وَنَحْوه مَخْصُوص مِنْ عُمُوم نَفْي الْعَدْوَى , قَالَ : فَيَكُون مَعَنِي قَوْله : " لَا عَدْوَى " أَيْ إِلَّا مِنْ الْجُذَام وَالْبَرَص وَالْجَرَب مَثَلًا , قَالَ : فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُعْدِي شَيْء شَيْئًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ تَبْيِينِي لَهُ أَنَّ فِيهِ الْعَدْوَى . وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ اِبْن بَطَّال . ‏
‏رَابِعهَا : أَنَّ الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم لَيْسَ مِنْ بَاب الْعَدْوَى فِي شَيْء , بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ جَسَد لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَة وَالْمُخَالَطَة وَشَمِّ الرَّائِحَة , وَلِذَلِكَ يَقَع فِي كَثِير مِنْ الْأَمْرَاض فِي الْعَادَة اِنْتِقَال الدَّاء مِنْ الْمَرِيض إِلَى الصَّحِيح بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَة , وَهَذِهِ طَرِيقَة اِبْن قُتَيْبَة فَقَالَ : الْمَجْذُوم تَشْتَدّ رَائِحَته حَتَّى يُسْقِم مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَته وَمُحَادَثَته وَمُضَاجَعَته , وَكَذَا يَقَع كَثِيرًا بِالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُل وَعَكْسه , وَيَنْزِع الْوَلَد إِلَيْهِ , وَلِهَذَا يَأْمُر الْأَطِبَّاء بِتَرْكِ مُخَالَطَة الْمَجْذُوم لَا عَلَى طَرِيق الْعَدْوَى بَلْ عَلَى طَرِيق التَّأَثُّر بِالرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا تُسْقِم مَنْ وَاظَبَ اِشْتِمَامهَا , قَالَ : وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " لِأَنَّ الْجَرَب الرَّطْب قَدْ يَكُون بِالْبَعِيرِ , فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِل أَوْ حَكَّكَهَا وَأَوَى إِلَى مَبَارِكهَا وَصْل إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيل مِنْهُ , وَكَذَا بِالنَّظَرِ نَحْو مَا بِهِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْله : " لَا عَدْوَى " فَلَهُ مَعْنًى آخَر , وَهُوَ أَنْ يَقَع الْمَرَض بِمَكَانٍ كَالطَّاعُونِ فَيَفِرّ مِنْهُ مَخَافَة أَنْ يُصِيبهُ , لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ الْفِرَار مِنْ قَدَر اللَّه . ‏
‏الْمَسْلَك الْخَامِس : أَنَّ الْمُرَاد بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ نَفْيًا لِمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَعْتَقِدهُ أَنَّ الْأَمْرَاض تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْر إِضَافَة إِلَى اللَّه , فَأَبْطَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتِقَادهمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُوم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّه هُوَ الَّذِي يُمْرِض وَيَشْفِي , وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّنُوّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي أَجْرَى اللَّه الْعَادَة بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتهَا , فَفِي نَهْيه إِثْبَات الْأَسْبَاب , وَفِي فِعْله إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلّ , بَلْ اللَّه هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّر شَيْئًا , وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ , وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يَكُون أَكْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمَجْذُوم أَنَّهُ كَانَ بِهِ أَمْر يَسِير لَا يُعْدِي مِثْله فِي الْعَادَة , إذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهمْ سَوَاء , وَلَا تَحْصُل الْعَدْوَى مِنْ جَمِيعهمْ بَلْ لَا يَحْصُل مِنْهُ فِي الْعَادَة عَدْوَى أَصْلًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَوَقَفَ فَلَمْ يَعُدْ بَقِيَّة جِسْمه فَلَا يُعْدِي . وَعَلَى الِاحْتِمَال الْأَوَّل جَرَى أَكْثَر الشَّافِعِيَّة , قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْد أَنْ أَوْرَدَ قَوْل الشَّافِعِيّ مَا نَصُّهُ : الْجُذَام وَالْبَرَص يَزْعُم أَهْل الْعِلْم بِالطِّبِّ وَالتَّجَارِب أَنَّهُ يُعْدِي الزَّوْج كَثِيرًا , وَهُوَ دَاء مَانِع لِلْجِمَاعِ لَا تَكَاد نَفْس أَحَد تَطِيب بِمُجَامَعَةِ مَنْ هُوَ بِهِ وَلَا نَفْس اِمْرَأَة أَنْ يُجَامِعهَا مَنْ هُوَ بِهِ , وَأَمَّا الْوَلَد فَبَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ وَلَده أَجْذَم أَوْ أَبْرَص أَنَّهُ قَلَّمَا يَسْلَم , وَإِنْ سَلِمَ أَدْرَكَ نَسْله . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَأَمَّا مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " لَا عَدْوَى " فَهُوَ عَلَى الْوَجْه الَّذِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ إِضَافَة الْفِعْل إِلَى غَيْر اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ يَجْعَل اللَّه بِمَشِيئَتِهِ مُخَالَطَة الصَّحِيح مَنْ بِهِ شَيْء مِنْ هَذِهِ الْعُيُوب سَبَبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ , وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " وَقَالَ : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " وَقَالَ فِي الطَّاعُون " مَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا يَقْدَم عَلَيْهِ " وَكُلّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى . وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ اِبْن الصَّلَاح فِي الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ وَمَنْ بَعْده وَطَائِفَة مِمَّنْ قَبْله . ‏
‏الْمَسْلَك السَّادِس : الْعَمَل بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلًا وَرَأْسًا , وَحَمْل الْأَمْر بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْم الْمَادَّة وَسَدّ الذَّرِيعَة لِئَلَّا يَحْدُث لِلْمُخَالِطِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَة فَيُثْبِت الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع , وَإِلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ أَبُو عُبَيْد وَتَبِعَهُ جَمَاعَة فَقَالَ أَبُو عُبَيْد : لَيْسَ فِي قَوْله : " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " إِثْبَات الْعَدْوَى , بَلْ لِأَنَّ الصِّحَاح لَوْ مَرِضَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّه تَعَالَى رُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْس صَاحِبهَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعَدْوَى فَيُفْتَتَن وَيَتَشَكَّك فِي ذَلِكَ , فَأَمَرَ بِاجْتِنَابِهِ . قَالَ : وَكَانَ بَعْض النَّاس يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْأَمْر بِالِاجْتِنَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَخَافَةِ عَلَى الصَّحِيح مِنْ ذَوَات الْعَاهَة , قَالَ : وَهَذَا شَرّ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيث , لِأَنَّ فِيهِ إِثْبَات الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِع , وَلَكِنَّ وَجْه الْحَدِيث عِنْدِي مَا ذَكَرْته . وَأَطْنَبَ اِبْن خُزَيْمَةَ فِي هَذَا فِي " كِتَاب التَّوَكُّل " فَإِنَّهُ أَوْرَدَ حَدِيث " لَا عَدْوَى " عَنْ عِدَّة مِنْ الصَّحَابَة وَحَدِيث " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَتَرْجَمَ لِلْأَوَّلِ " التَّوَكُّل عَلَى اللَّه فِي نَفْي الْعَدْوَى " وَلِلثَّانِي " ذِكْر خَبَر غَلِطَ فِي مَعْنَاهُ بَعْض الْعُلَمَاء , وَأَثْبَتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ تَرْجَمَ " الدَّلِيل عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ إِثْبَات الْعَدْوَى بِهَذَا الْقَوْل " فَسَاقَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " لَا عَدْوَى , فَقَالَ أَعْرَابِيّ : فَمَا بَال الْإِبِل يُخَالِطهَا الْأَجْرَب فَتَجْرَب ؟ قَالَ : فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّل " ثُمَّ ذَكَرَ طُرُقه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود , ثُمَّ تَرْجَمَ " ذِكْر خَبَر رُوِيَ فِي الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم قَدْ يَخْطِر لِبَعْضِ النَّاس أَنَّ فِيهِ إِثْبَات الْعَدْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ " وَسَاقَ حَدِيث " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَمِنْ حَدِيث عَائِشَة , وَحَدِيث عَمْرو بْن الشَّرِيد عَنْ أَبِيهِ فِي أَمْر الْمَجْذُوم بِالرُّجُوعِ , وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس " لَا تُدِيمُوا النَّظَر إِلَى الْمَجْذُومِينَ " ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم كَمَا نَهَاهُمْ أَنْ يُورِد الْمُمْرِض عَلَى الْمُصِحّ شَفَقَة عَلَيْهِمْ , وَخَشْيَة أَنْ يُصِيب بَعْض مَنْ يُخَالِطهُ الْمَجْذُوم الْجُذَام , وَالصَّحِيح مِنْ الْمَاشِيَة الْجَرَب فَيَسْبِق إِلَى بَعْض الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعَدْوَى فَيُثْبِت الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَة مِنْهُ وَرَحْمَة لِيَسْلَمُوا مِنْ التَّصْدِيق بِإِثْبَاتِ الْعَدْوَى , وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْدِي شَيْء شَيْئًا . قَالَ : وَيُؤَيِّد هَذَا أَكْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمَجْذُوم ثِقَة بِاَللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ , وَسَاقَ حَدِيث جَابِر فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا نَهْيه عَنْ إِدَامَة النَّظَر إِلَى الْمَجْذُوم فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِأَنَّ الْمَجْذُوم يَغْتَمّ وَيَكْرَه إِدْمَان الصَّحِيح نَظَره إِلَيْهِ , لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَكُون بِهِ دَاء إِلَّا وَهُوَ يَكْرَه أَنْ يُطَّلَع عَلَيْهِ ا ه . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اِحْتِمَالًا سَبَقَهُ إِلَيْهِ مَالِك , فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ بِكَرَاهِيَةٍ , وَمَا أَدْرِي مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَخَافَة أَنْ يَقَع فِي نَفْس الْمُؤْمِن شَيْء . وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : الصَّوَاب عِنْدنَا الْقَوْل بِمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَر , وَأَنْ لَا عَدْوَى , وَأَنَّهُ لَا يُصِيب نَفْسًا إِلَّا مَا كُتِبَ عَلَيْهَا . وَأَمَّا دُنُوّ عَلِيل مِنْ صَحِيح فَغَيْر مُوجِب اِنْتِقَال الْعِلَّة لِلصَّحِيحِ , إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِذِي صِحَّة الدُّنُوّ مِنْ صَاحِب الْعَاهَة الَّتِي يَكْرَههَا النَّاس , لَا لِتَحْرِيمِ ذَلِكَ , بَلْ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنّ الصَّحِيح أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِهِ ذَلِكَ الدَّاء أَنَّهُ مِنْ جِهَة دُنُوّهُ مِنْ الْعَلِيل فَيَقَع فِيمَا أَبْطَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدْوَى . قَالَ : وَلَيْسَ فِي أَمْره بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم مُعَارَضَة لِأَكْلِهِ مَعَهُ , لِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُر بِالْأَمْرِ عَلَى سَبِيل الْإِرْشَاد أَحْيَانًا وَعَلَى سَبِيل الْإِبَاحَة أُخْرَى , وَإِنْ كَانَ أَكْثَر الْأَوَامِر عَلَى الْإِلْزَام , إِنَّمَا كَانَ يَفْعَل مَا نَهَى عَنْهُ أَحْيَانَا لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَرَامًا . وَقَدْ سَلَكَ الطَّحَاوِيُّ فِي " مَعَانِي الْآثَار " مَسْلَك اِبْن خُزَيْمَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ فَأَوْرَدَ حَدِيث " لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ " ثُمَّ قَالَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصِحّ قَدْ يُصِيبهُ ذَلِكَ الْمَرَض فَيَقُول الَّذِي أَوْرَدَهُ لَوْ أَنِّي مَا أَوْرَدْته عَلَيْهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ هَذَا الْمَرَض شَيْء , وَالْوَاقِع أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُورِدهُ لَأَصَابَهُ لِكَوْنِ اللَّه تَعَالَى قَدَّرَهُ , فَنَهَى عَنْ إِيرَاده لِهَذِهِ الْعِلَّة الَّتِي لَا يُؤْمَن غَالِبًا مِنْ وُقُوعهَا فِي قَلْب الْمَرْء ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ فَأَطْنَبَ , وَجَمَعَ بَيْنهَا بِنَحْوِ مَا جَمَعَ بِهِ اِبْن خُزَيْمَةَ . وَلِذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " : إِنَّمَا نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِيرَاد الْمُمْرِض عَلَى الْمُصِحّ مَخَافَة الْوُقُوع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ اِعْتِقَاد الْعَدْوَى , أَوْ مَخَافَة تَشْوِيش النُّفُوس وَتَأْثِير الْأَوْهَام , وَهُوَ نَحْو قَوْله : " فِرَّ مِنْ الْمَجْذُوم فِرَارك مِنْ الْأَسَد " وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِد أَنَّ الْجُذَام لَا يُعْدِي , لَكِنَّا نَجِد فِي أَنْفُسنَا نُفْرَة وَكَرَاهِيَة لِمُخَالَطَتِهِ , حَتَّى لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَان نَفْسه عَلَى الْقُرْب مِنْهُ وَعَلَى مُجَالَسَته لَتَأَذَّتْ نَفْسه بِذَلِكَ , فَحِينَئِذٍ فَالْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتَعَرَّض إِلَى مَا يَحْتَاج فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَة , فَيَجْتَنِب طُرُق الْأَوْهَام , وَيُبَاعِد أَسْبَاب الْآلَام , مَعَ أَنَّهُ يَعْتَقِد أَنَّهُ لَا يُنَجِّي حَذَر مِنْ قَدْر , وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة : الْأَمْر بِالْفِرَارِ مِنْ الْأَسَد لَيْسَ لِلْوُجُوبِ , بَلْ لِلشَّفَقَةِ , لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى أُمَّته عَنْ كُلّ مَا فِيهِ ضَرَر بِأَيِّ وَجْه كَانَ , وَيَدُلّهُمْ عَلَى كُلّ مَا فِيهِ خَيْر . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْض أَهْل الطِّبّ أَنَّ الرَّوَائِح تُحْدِث فِي الْأَبْدَانِ خَلَلًا فَكَانَ هَذَا وَجْه الْأَمْر بِالْمُجَانَبَةِ , وَقَدْ أَكَلَ هُوَ مَعَ الْمَجْذُوم , فَلَوْ كَانَ الْأَمْر بِمُجَانَبَتِهِ عَلَى الْوُجُوب لِمَا فَعَلَهُ . قَالَ : وَيُمْكِن الْجَمْع بَيْن فِعْله وَقَوْله بِأَنَّ الْقَوْل هُوَ الْمَشْرُوع مِنْ أَجْل ضَعْف الْمُخَاطَبِينَ , وَفِعْله حَقِيقَة الْإِيمَان , فَمَنْ فَعَلَ الْأَوَّل أَصَابَ السُّنَّة وَهِيَ أَثَر الْحِكْمَة , وَمَنْ فَعَلَ الثَّانِي كَانَ أَقْوَى يَقِينًا لِأَنَّ الْأَشْيَاء كُلّهَا لَا تَأْثِير لَهَا إِلَّا بِمُقْتَضَى إِرَادَة اللَّه تَعَالَى وَتَقْدِيره , كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه ) فَمَنْ كَانَ قَوِيّ الْيَقِين فَلَهُ أَنْ يُتَابِعهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَعَلَهُ وَلَا يَضُرّهُ شَيْء , وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسه ضَعْفًا فَلْيَتْبَعْ أَمْرَهُ فِي الْفِرَار لِئَلَّا يَدْخُل بِفِعْلِهِ فِي إِلْقَاء نَفْسه إِلَى التَّهْلُكَة . فَالْحَاصِل أَنَّ الْأُمُور الَّتِي يُتَوَقَّع مِنْهَا الضَّرَر وَقَدْ أَبَاحَتْ الْحِكْمَة الرَّبَّانِيَّة الْحَذَر مِنْهَا فَلَا يَنْبَغِي لِلضُّعَفَاءِ أَنْ يَقْرَبُوهَا وَأَمَّا أَصْحَاب الصِّدْق وَالْيَقِين فَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ . قَالَ : وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْحُكْم لِلْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْغَالِب مِنْ النَّاس هُوَ الضَّعْف , فَجَاءَ الْأَمْر بِالْفِرَارِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَاسْتُدِلَّ بِالْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنْ الْمَجْذُوم لِإِثْبَاتِ الْخِيَار لِلزَّوْجَيْنِ فِي فَسْخ النِّكَاح إِذَا وَجَدَهُ أَحَدهمَا بِالْآخَرِ , وَهُوَ قَوْل جُمْهُور الْعُلَمَاء . وَأَجَابَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسْخِ بِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَثَبَتَ الْفَسْخ إِذَا حَدَثَ الْجُذَام وَلَا قَائِل بِهِ , وَرُدَّ بِأَنَّ الْخِلَاف ثَابِت , بَلْ هُوَ الرَّاجِح عِنْد الشَّافِعِيَّة , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النِّكَاح الْإِلْمَام بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا . وَاخْتُلِفَ فِي أَمَة الْأَجْذَم : هَلْ يَجُوز لَهَا أَنْ تَمْنَع نَفْسهَا مِنْ اِسْتِمْتَاعه إِذَا أَرَادَهَا ؟ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَجْذُومِينَ إِذَا كَثُرُوا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْمَسَاجِد وَالْمَجَامِع ؟ وَهَلْ يُتَّخَذ لَهُمْ مَكَان مُنْفَرِد عَنْ الْأَصِحَّاء ؟ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي النَّادِر أَنَّهُ لَا يُمْنَع وَلَا فِي شُهُود الْجُمُعَة . ‏





تاريخ التسجيل : 01/01/1970

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى