أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة
التشاجيح :: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
صفحة 1 من اصل 1
أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة
أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة
حدثنا إسحاق أخبرنا حبان حدثنا داود بن أبي الفرات حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
أنها أخبرتنا أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد
تابعه النضر عن داود
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْحَاق )
هُوَ اِبْن رَاهْوَيْهِ ,
وَحَبَّان
بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمُوَحَّدَة هُوَ اِبْن هِلَال
وَيَحْيَى بْن يَعْمَر
بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّة وَالْمِيم بَيْنهمَا عَيْن مُهْمَلَة سَاكِنَة وَآخِره رَاء .
قَوْله : ( أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُون )
فِي رِوَايَة أَحْمَد مِنْ هَذَا الْوَجْه عَنْ عَائِشَة " قَالَتْ سَأَلْت " .
قَوْله : ( أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثهُ اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " عَلَى مَنْ شَاءَ " أَيْ مِنْ كَافِر أَوْ عَاصٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّة آل فِرْعَوْن وَفِي قِصَّة أَصْحَاب مُوسَى مَعَ بَلْعَام .
قَوْله : ( فَجَعَلَهُ اللَّه رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ )
أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة , وَفِي حَدِيث أَبِي عَسِيب عِنْد أَحْمَد " فَالطَّاعُون شَهَادَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة لَهُمْ , وَرِجْس عَلَى الْكَافِر " وَهُوَ صَرِيح فِي أَنَّ كَوْن الطَّاعُون رَحْمَة إِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِالْمُسْلِمِينَ , وَإِذَا وَقَعَ بِالْكَفَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ عَذَاب عَلَيْهِمْ يُعَجَّل لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْل الْآخِرَة , وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فَهَلْ يَكُون الطَّاعُون لَهُ شَهَادَة أَوْ يَخْتَصّ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِل ؟ فِيهِ نَظَر . وَالْمُرَاد بِالْعَاصِي مَنْ يَكُون مُرْتَكِب الْكَبِيرَة وَيَهْجُم عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُصِرّ , فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال لَا يُكَرَّم بِدَرَجَةِ الشَّهَادَة لِشُؤْمِ مَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُون يَنْشَأ عَنْ ظُهُور الْفَاحِشَة , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ " لَمْ تَظْهَر الْفَاحِشَة فِي قَوْم قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُون وَالْأَوْجَاع الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافهمْ " الْحَدِيث , وَفِي إِسْنَاده خَالِد بْن يَزِيد بْن أَبِي مَالِك وَكَانَ مِنْ فُقَهَاء الشَّام , لَكِنَّهُ ضَعِيف عِنْد أَحْمَد وَابْن مَعِين وَغَيْرهمَا , وَوَثَّقَهُ أَحْمَد بْن صَالِح الْمِصْرِيّ وَأَبُو زُرْعَة الدِّمَشْقِيّ وَقَالَ اِبْن حِبَّانَ : كَانَ يُخْطِئ كَثِيرًا , وَلَهُ شَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي " الْمُوَطَّأ " بِلَفْظِ " وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْم إِلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْت " الْحَدِيث , وَفِيهِ اِنْقِطَاع . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ وَجْه آخَر مَوْصُولًا بِلَفْظِ " إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَة فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَاب اللَّه " وَلِلطَّبَرَانِيّ مَوْصُولًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو سِيَاق مَالِك وَفِي سَنَده مَقَال , وَلَهُ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الْعَاصِ بِلَفْظِ " مَا مِنْ قَوْم يَظْهَر فِيهِمْ الزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالْفَنَاءِ " الْحَدِيث وَسَنَده ضَعِيف , وَفِي حَدِيث بُرَيْدَةَ عِنْد الْحَاكِم بِسَنَدٍ جَيِّد بِلَفْظِ " وَلَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَة فِي قَوْم إِلَّا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمَوْت " وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا , فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ " وَسَنَده حَسَن . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الطَّاعُون قَدْ يَقَع عُقُوبَة بِسَبَبِ الْمَعْصِيَة , فَكَيْف يَكُون شَهَادَة ؟ وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : بَلْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة لِعُمُومِ الْأَخْبَار الْوَارِدَة , وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله عَنْ أَنَس " الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم " وَلَا يَلْزَم مِنْ حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة لِمَنْ اجْتَرَحَ السَّيِّئَات مُسَاوَاة الْمُؤْمِن الْكَامِل فِي الْمَنْزِلَة , لِأَنَّ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة كَنَظِيرِهِ مِنْ الْعُصَاة إِذَا قُتِلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا مُقْبِلًا غَيْر مُدْبِر , وَمِنْ رَحْمَة اللَّه بِهَذِهِ الْأُمَّة الْمُحَمَّدِيَّة أَنْ يُعَجَّل لَهُمْ الْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُل لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون أَجْر الشَّهَادَة , وَلَا سِيَّمَا وَأَكْثَرهمْ لَمْ يُبَاشِر تِلْكَ الْفَاحِشَة , وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ - وَاَللَّه أَعْلَم - لِتَقَاعُدِهِمْ عَنْ إِنْكَار الْمُنْكَر . وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث عُتْبَة بْن عُبَيْد رَفَعَهُ " الْقَتْل ثَلَاثَة : رَجُل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه , حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل , فَذَاكَ الشَّهِيد الْمُفْتَخِر فِي خَيْمَة اللَّه تَحْت عَرْشه لَا يَفْضُلهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّة . وَرَجُل مُؤْمِن قَرَفَ عَلَى نَفْسه مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا , جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه , حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل فَانْمَحَتْ خَطَايَاهُ , إِنَّ السَّيْف مَحَّاء لِلْخَطَايَا . وَرَجُل مُنَافِق جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله حَتَّى يُقْتَل فَهُوَ فِي النَّار , إِنَّ السَّيْف لَا يَمْحُو النِّفَاق " وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر الصَّحِيح " إِنَّ الشَّهِيد يُغْفَر لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن " فَإِنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّهَادَة لَا تُكَفِّر التَّبِعَات , وَحُصُول التَّبِعَات لَا يَمْنَع حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة , وَلَيْسَ لِلشَّهَادَةِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّ اللَّه يُثِيب مَنْ حَصَلَتْ لَهُ ثَوَابًا مَخْصُوصًا وَيُكْرِمهُ كَرَامَة زَائِدَة , وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ اللَّه يَتَجَاوَز عَنْهُ مَا عَدَا التَّبِعَات , فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لِلشَّهِيدِ أَعْمَالًا صَالِحَة وَقَدْ كَفَّرَتْ الشَّهَادَة أَعْمَاله السَّيِّئَة غَيْر التَّبِعَات فَإِنَّ أَعْمَاله الصَّالِحَة تَنْفَعهُ فِي مُوَازَنَة مَا عَلَيْهِ مِنْ التَّبِعَات وَتَبْقَى لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة خَالِصَة , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة فَهُوَ فِي الْمَشِيئَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَلَيْسَ مِنْ عَبْد )
أَيْ مُسْلِم
( يَقَع الطَّاعُون )
أَيْ فِي مَكَان هُوَ فِيهِ
( فَيَمْكُث فِي بَلَده )
فِي رِوَايَة أَحْمَد " فِي بَيْته " , وَيَأْتِي فِي الْقَدَر بِلَفْظِ " يَكُون فِيهِ وَيَمْكُث فِيهِ وَلَا يَخْرُج مِنْ الْبَلَد " أَيْ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُون .
قَوْله : ( صَابِرًا )
أَيْ غَيْر مُنْزَعِج وَلَا قَلِق , بَلْ مُسَلِّمًا لِأَمْرِ اللَّه رَاضِيًا بِقَضَائِهِ , وَهَذَا قَيْد فِي حُصُول أَجْر الشَّهَادَة لِمَنْ يَمُوت بِالطَّاعُونِ , وَهُوَ أَنْ يَمْكُث بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَع بِهِ فَلَا يَخْرُج فِرَارًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ النَّهْي عَنْهُ فِي الْبَاب قَبْله صَرِيحًا .
وَقَوْله : " يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ "
قَيْد آخَر , وَهِيَ جُمْلَة حَالِيَّة تَتَعَلَّق بِالْإِقَامَةِ , فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِق أَوْ مُتَنَدِّم عَلَى عَدَم الْخُرُوج ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَع بِهِ فَهَذَا لَا يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ , هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَفْهُوم هَذَا الْحَدِيث كَمَا اِقْتَضَى مَنْطُوقه أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُل تَحْته ثَلَاث صُوَر : أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ , أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ , أَوْ لَمْ يَقَع بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا .
قَوْله : ( مِثْل أَجْر الشَّهِيد )
لَعَلَّ السِّرّ فِي التَّعْبِير بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوت التَّصْرِيح بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَة مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْل أَجْر الشَّهِيد , وَيَكُون كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْر الْقَتْل , وَأَمَّا مَا اِقْتَضَاهُ مَفْهُوم حَدِيث الْبَاب أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَاب الشَّهِيد فَشَهِدَ لَهُ حَدِيث اِبْن مَسْعُود الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن عُبَيْد بْن رِفَاعَة أَنَّ أَبَا مُحَمَّد أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . " إِنَّ أَكْثَر شُهَدَاء أُمَّتِي لَأَصْحَاب الْفُرُش , وَرُبَّ قَتِيل بَيْن الصَّفَّيْنِ اللَّه أَعْلَم بِنِيَّتِهِ " وَالضَّمِير فِي قَوْله أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُود فَإِنَّ أَحْمَد أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود وَرِجَال سَنَده مُوَثَّقُونَ , وَاسْتَنْبَطَ مِنْ الْحَدِيث أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُون لَهُ أَجْر شَهِيدَيْنِ , وَلَا مَانِع مِنْ تَعَدُّد الثَّوَاب بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَاب كَمَنْ يَمُوت غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ , أَوْ نُفَسَاء مَعَ الصَّبْر وَالِاحْتِسَاب , وَالتَّحْقِيق فِيمَا اِقْتَضَاهُ حَدِيث الْبَاب أَنَّهُ يَكُون شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُون بِهِ وَيُضَاف لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد لِصَبْرِهِ وَثَبَاته , فَإِنَّ دَرَجَة الشَّهَادَة شَيْء وَأَجْر الشَّهَادَة شَيْء , وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة وَقَالَ : هَذَا هُوَ السِّرّ فِي قَوْله " وَالْمَطْعُون شَهِيد " وَفِي قَوْله فِي هَذَا : " فَلَهُ مِثْل أَجْر شَهِيد " وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : بَلْ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة , فَأَرْفَعهَا مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ , وَدُونه فِي الْمَرْتَبَة مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ , وَدُونه مَنْ اِتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَن وَلَمْ يَمُتْ بِهِ . وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة لَا يَكُون شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُون وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوت بِغَيْرِهِ , وَذَلِكَ يَنْشَأ عَنْ شُؤْم الِاعْتِرَاض الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ التَّضَجُّر وَالتَّسَخُّط لِقَدَرِ اللَّه وَكَرَاهَة لِقَاء اللَّه , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَفُوت مَعَهَا الْخِصَال الْمَشْرُوطَة , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث اِسْتِوَاء شَهِيد الطَّاعُون وَشَهِيد الْمَعْرَكَة , فَأَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " يَأْتِي الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ , فَيَقُول أَصْحَاب الطَّاعُون : نَحْنُ شُهَدَاء , فَيُقَال : اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحهمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاء تَسِيل دَمًا وَرِيحهَا كَرِيحِ الْمِسْك فَهُمْ شُهَدَاء , فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ " . وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن أَيْضًا بِلَفْظِ " يَخْتَصِم الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشهمْ إِلَى رَبّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ , فَيَقُول الشُّهَدَاء : إِخْوَاننَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا , وَيَقُول الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ إِخْوَاننَا مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ كَمَا مُتْنَا , فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إِلَى جِرَاحهمْ , فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاح الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ , فَإِذَا جِرَاحهمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحهمْ " زَادَ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي آخِره " فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ " .
قَوْله : ( تَابَعَهُ النَّضْر عَنْ دَاوُدَ )
النَّضْر هُوَ اِبْن شُمَيْلٍ , وَدَاوُد هُوَ اِبْن أَبِي الْفُرَات , وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيق النَّضْر فِي " كِتَاب الْقَدَر " عَنْ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَنْهُ , وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا فِي ذِكْر بَنِي إِسْرَائِيل عَنْ مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ عَفَّان وَعَبْد الصَّمَد بْن عَبْد الْوَارِث وَأَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْمُقْرِي وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق يُونُس بْن مُحَمَّد الْمُؤَدِّب كُلّهمْ عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي الْفُرَات , وَإِنَّمَا ذَكَرْت ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّم أَنَّ الْبُخَارِيّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " تَابَعَهُ النَّضْر " إِزَالَة تَوَهُّم مَنْ يَتَوَهَّم تَفَرُّد حَبَّان بْن هِلَال بِهِ فَيَظُنّ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهُ غَيْرهمَا , وَلَمْ يُرِدْ الْبُخَارِيّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ إِزَالَة تَوَهُّم التَّفَرُّد بِهِ فَقَطْ , وَلَمْ يُرِدْ الْحَصْر فِيهِمَا , وَاَللَّه أَعْلَم .
حدثنا إسحاق أخبرنا حبان حدثنا داود بن أبي الفرات حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
أنها أخبرتنا أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد
تابعه النضر عن داود
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( حَدَّثَنَا إِسْحَاق )
هُوَ اِبْن رَاهْوَيْهِ ,
وَحَبَّان
بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمُوَحَّدَة هُوَ اِبْن هِلَال
وَيَحْيَى بْن يَعْمَر
بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّة وَالْمِيم بَيْنهمَا عَيْن مُهْمَلَة سَاكِنَة وَآخِره رَاء .
قَوْله : ( أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُون )
فِي رِوَايَة أَحْمَد مِنْ هَذَا الْوَجْه عَنْ عَائِشَة " قَالَتْ سَأَلْت " .
قَوْله : ( أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثهُ اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " عَلَى مَنْ شَاءَ " أَيْ مِنْ كَافِر أَوْ عَاصٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّة آل فِرْعَوْن وَفِي قِصَّة أَصْحَاب مُوسَى مَعَ بَلْعَام .
قَوْله : ( فَجَعَلَهُ اللَّه رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ )
أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة , وَفِي حَدِيث أَبِي عَسِيب عِنْد أَحْمَد " فَالطَّاعُون شَهَادَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة لَهُمْ , وَرِجْس عَلَى الْكَافِر " وَهُوَ صَرِيح فِي أَنَّ كَوْن الطَّاعُون رَحْمَة إِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِالْمُسْلِمِينَ , وَإِذَا وَقَعَ بِالْكَفَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ عَذَاب عَلَيْهِمْ يُعَجَّل لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْل الْآخِرَة , وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فَهَلْ يَكُون الطَّاعُون لَهُ شَهَادَة أَوْ يَخْتَصّ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِل ؟ فِيهِ نَظَر . وَالْمُرَاد بِالْعَاصِي مَنْ يَكُون مُرْتَكِب الْكَبِيرَة وَيَهْجُم عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُصِرّ , فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال لَا يُكَرَّم بِدَرَجَةِ الشَّهَادَة لِشُؤْمِ مَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُون يَنْشَأ عَنْ ظُهُور الْفَاحِشَة , أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ " لَمْ تَظْهَر الْفَاحِشَة فِي قَوْم قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُون وَالْأَوْجَاع الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافهمْ " الْحَدِيث , وَفِي إِسْنَاده خَالِد بْن يَزِيد بْن أَبِي مَالِك وَكَانَ مِنْ فُقَهَاء الشَّام , لَكِنَّهُ ضَعِيف عِنْد أَحْمَد وَابْن مَعِين وَغَيْرهمَا , وَوَثَّقَهُ أَحْمَد بْن صَالِح الْمِصْرِيّ وَأَبُو زُرْعَة الدِّمَشْقِيّ وَقَالَ اِبْن حِبَّانَ : كَانَ يُخْطِئ كَثِيرًا , وَلَهُ شَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي " الْمُوَطَّأ " بِلَفْظِ " وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْم إِلَّا كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْت " الْحَدِيث , وَفِيهِ اِنْقِطَاع . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ وَجْه آخَر مَوْصُولًا بِلَفْظِ " إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَة فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَاب اللَّه " وَلِلطَّبَرَانِيّ مَوْصُولًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو سِيَاق مَالِك وَفِي سَنَده مَقَال , وَلَهُ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الْعَاصِ بِلَفْظِ " مَا مِنْ قَوْم يَظْهَر فِيهِمْ الزِّنَا إِلَّا أُخِذُوا بِالْفَنَاءِ " الْحَدِيث وَسَنَده ضَعِيف , وَفِي حَدِيث بُرَيْدَةَ عِنْد الْحَاكِم بِسَنَدٍ جَيِّد بِلَفْظِ " وَلَا ظَهَرَتْ الْفَاحِشَة فِي قَوْم إِلَّا سَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْمَوْت " وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا , فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ " وَسَنَده حَسَن . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الطَّاعُون قَدْ يَقَع عُقُوبَة بِسَبَبِ الْمَعْصِيَة , فَكَيْف يَكُون شَهَادَة ؟ وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : بَلْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة لِعُمُومِ الْأَخْبَار الْوَارِدَة , وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله عَنْ أَنَس " الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم " وَلَا يَلْزَم مِنْ حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة لِمَنْ اجْتَرَحَ السَّيِّئَات مُسَاوَاة الْمُؤْمِن الْكَامِل فِي الْمَنْزِلَة , لِأَنَّ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة كَنَظِيرِهِ مِنْ الْعُصَاة إِذَا قُتِلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا مُقْبِلًا غَيْر مُدْبِر , وَمِنْ رَحْمَة اللَّه بِهَذِهِ الْأُمَّة الْمُحَمَّدِيَّة أَنْ يُعَجَّل لَهُمْ الْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُل لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون أَجْر الشَّهَادَة , وَلَا سِيَّمَا وَأَكْثَرهمْ لَمْ يُبَاشِر تِلْكَ الْفَاحِشَة , وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ - وَاَللَّه أَعْلَم - لِتَقَاعُدِهِمْ عَنْ إِنْكَار الْمُنْكَر . وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث عُتْبَة بْن عُبَيْد رَفَعَهُ " الْقَتْل ثَلَاثَة : رَجُل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه , حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل , فَذَاكَ الشَّهِيد الْمُفْتَخِر فِي خَيْمَة اللَّه تَحْت عَرْشه لَا يَفْضُلهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّة . وَرَجُل مُؤْمِن قَرَفَ عَلَى نَفْسه مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا , جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه , حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل فَانْمَحَتْ خَطَايَاهُ , إِنَّ السَّيْف مَحَّاء لِلْخَطَايَا . وَرَجُل مُنَافِق جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله حَتَّى يُقْتَل فَهُوَ فِي النَّار , إِنَّ السَّيْف لَا يَمْحُو النِّفَاق " وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر الصَّحِيح " إِنَّ الشَّهِيد يُغْفَر لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن " فَإِنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّهَادَة لَا تُكَفِّر التَّبِعَات , وَحُصُول التَّبِعَات لَا يَمْنَع حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة , وَلَيْسَ لِلشَّهَادَةِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّ اللَّه يُثِيب مَنْ حَصَلَتْ لَهُ ثَوَابًا مَخْصُوصًا وَيُكْرِمهُ كَرَامَة زَائِدَة , وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ اللَّه يَتَجَاوَز عَنْهُ مَا عَدَا التَّبِعَات , فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لِلشَّهِيدِ أَعْمَالًا صَالِحَة وَقَدْ كَفَّرَتْ الشَّهَادَة أَعْمَاله السَّيِّئَة غَيْر التَّبِعَات فَإِنَّ أَعْمَاله الصَّالِحَة تَنْفَعهُ فِي مُوَازَنَة مَا عَلَيْهِ مِنْ التَّبِعَات وَتَبْقَى لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة خَالِصَة , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة فَهُوَ فِي الْمَشِيئَة , وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَلَيْسَ مِنْ عَبْد )
أَيْ مُسْلِم
( يَقَع الطَّاعُون )
أَيْ فِي مَكَان هُوَ فِيهِ
( فَيَمْكُث فِي بَلَده )
فِي رِوَايَة أَحْمَد " فِي بَيْته " , وَيَأْتِي فِي الْقَدَر بِلَفْظِ " يَكُون فِيهِ وَيَمْكُث فِيهِ وَلَا يَخْرُج مِنْ الْبَلَد " أَيْ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُون .
قَوْله : ( صَابِرًا )
أَيْ غَيْر مُنْزَعِج وَلَا قَلِق , بَلْ مُسَلِّمًا لِأَمْرِ اللَّه رَاضِيًا بِقَضَائِهِ , وَهَذَا قَيْد فِي حُصُول أَجْر الشَّهَادَة لِمَنْ يَمُوت بِالطَّاعُونِ , وَهُوَ أَنْ يَمْكُث بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَع بِهِ فَلَا يَخْرُج فِرَارًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ النَّهْي عَنْهُ فِي الْبَاب قَبْله صَرِيحًا .
وَقَوْله : " يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ "
قَيْد آخَر , وَهِيَ جُمْلَة حَالِيَّة تَتَعَلَّق بِالْإِقَامَةِ , فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِق أَوْ مُتَنَدِّم عَلَى عَدَم الْخُرُوج ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَع بِهِ فَهَذَا لَا يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ , هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَفْهُوم هَذَا الْحَدِيث كَمَا اِقْتَضَى مَنْطُوقه أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُل تَحْته ثَلَاث صُوَر : أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ , أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ , أَوْ لَمْ يَقَع بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا .
قَوْله : ( مِثْل أَجْر الشَّهِيد )
لَعَلَّ السِّرّ فِي التَّعْبِير بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوت التَّصْرِيح بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَة مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْل أَجْر الشَّهِيد , وَيَكُون كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْر الْقَتْل , وَأَمَّا مَا اِقْتَضَاهُ مَفْهُوم حَدِيث الْبَاب أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَاب الشَّهِيد فَشَهِدَ لَهُ حَدِيث اِبْن مَسْعُود الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن عُبَيْد بْن رِفَاعَة أَنَّ أَبَا مُحَمَّد أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . " إِنَّ أَكْثَر شُهَدَاء أُمَّتِي لَأَصْحَاب الْفُرُش , وَرُبَّ قَتِيل بَيْن الصَّفَّيْنِ اللَّه أَعْلَم بِنِيَّتِهِ " وَالضَّمِير فِي قَوْله أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُود فَإِنَّ أَحْمَد أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود وَرِجَال سَنَده مُوَثَّقُونَ , وَاسْتَنْبَطَ مِنْ الْحَدِيث أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُون لَهُ أَجْر شَهِيدَيْنِ , وَلَا مَانِع مِنْ تَعَدُّد الثَّوَاب بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَاب كَمَنْ يَمُوت غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ , أَوْ نُفَسَاء مَعَ الصَّبْر وَالِاحْتِسَاب , وَالتَّحْقِيق فِيمَا اِقْتَضَاهُ حَدِيث الْبَاب أَنَّهُ يَكُون شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُون بِهِ وَيُضَاف لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد لِصَبْرِهِ وَثَبَاته , فَإِنَّ دَرَجَة الشَّهَادَة شَيْء وَأَجْر الشَّهَادَة شَيْء , وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة وَقَالَ : هَذَا هُوَ السِّرّ فِي قَوْله " وَالْمَطْعُون شَهِيد " وَفِي قَوْله فِي هَذَا : " فَلَهُ مِثْل أَجْر شَهِيد " وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : بَلْ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة , فَأَرْفَعهَا مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ , وَدُونه فِي الْمَرْتَبَة مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ , وَدُونه مَنْ اِتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَن وَلَمْ يَمُتْ بِهِ . وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة لَا يَكُون شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُون وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوت بِغَيْرِهِ , وَذَلِكَ يَنْشَأ عَنْ شُؤْم الِاعْتِرَاض الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ التَّضَجُّر وَالتَّسَخُّط لِقَدَرِ اللَّه وَكَرَاهَة لِقَاء اللَّه , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَفُوت مَعَهَا الْخِصَال الْمَشْرُوطَة , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث اِسْتِوَاء شَهِيد الطَّاعُون وَشَهِيد الْمَعْرَكَة , فَأَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " يَأْتِي الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ , فَيَقُول أَصْحَاب الطَّاعُون : نَحْنُ شُهَدَاء , فَيُقَال : اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحهمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاء تَسِيل دَمًا وَرِيحهَا كَرِيحِ الْمِسْك فَهُمْ شُهَدَاء , فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ " . وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن أَيْضًا بِلَفْظِ " يَخْتَصِم الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشهمْ إِلَى رَبّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ , فَيَقُول الشُّهَدَاء : إِخْوَاننَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا , وَيَقُول الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ إِخْوَاننَا مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ كَمَا مُتْنَا , فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إِلَى جِرَاحهمْ , فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاح الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ , فَإِذَا جِرَاحهمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحهمْ " زَادَ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي آخِره " فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ " .
قَوْله : ( تَابَعَهُ النَّضْر عَنْ دَاوُدَ )
النَّضْر هُوَ اِبْن شُمَيْلٍ , وَدَاوُد هُوَ اِبْن أَبِي الْفُرَات , وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيق النَّضْر فِي " كِتَاب الْقَدَر " عَنْ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم عَنْهُ , وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا فِي ذِكْر بَنِي إِسْرَائِيل عَنْ مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل , وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد عَنْ عَفَّان وَعَبْد الصَّمَد بْن عَبْد الْوَارِث وَأَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْمُقْرِي وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق يُونُس بْن مُحَمَّد الْمُؤَدِّب كُلّهمْ عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي الْفُرَات , وَإِنَّمَا ذَكَرْت ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّم أَنَّ الْبُخَارِيّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " تَابَعَهُ النَّضْر " إِزَالَة تَوَهُّم مَنْ يَتَوَهَّم تَفَرُّد حَبَّان بْن هِلَال بِهِ فَيَظُنّ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهُ غَيْرهمَا , وَلَمْ يُرِدْ الْبُخَارِيّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ إِزَالَة تَوَهُّم التَّفَرُّد بِهِ فَقَطْ , وَلَمْ يُرِدْ الْحَصْر فِيهِمَا , وَاَللَّه أَعْلَم .
- تاريخ التسجيل : 01/01/1970
مواضيع مماثلة
» كبري الله مائة مرة واحمدي الله مائة مرة وسبحي الله
» معرفة الحكمة من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم له طريقان
» إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه
» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعط
» ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط
» معرفة الحكمة من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم له طريقان
» إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه
» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعط
» ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط
التشاجيح :: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى